المشاركات

في غرفة الموسيقى

صورة
كانت تعيش في عالم بلا ألوان، بلا وجوه، بلا ملامح. نور، فتاة كفيفة منذ الطفولة، قضت سنوات عمرها في ظلال الأصوات. لم تكن تبصر، لكنها كانت ترى الناس من نبراتهم، من خفق خطواتهم، من طريقة تنفسهم. ترعرعت في بيت يحب الفن، والدتها كانت تعزف على العود، ووالدها كان شاعرًا بسيطًا يكتب القصائد لنفسه. كبرت نور بين الكتب الصوتية والموسيقى، لكنها وقعت في غرام آلة واحدة فقط: البيانو. أحبت مفاتيحه، بياضه وسواده، طريقته في الانحناء، والهدوء الذي يسبق الانفجار في نغمة واحدة. وحين بلغت السابعة عشرة، قررت أن تتعلمه. التحقت بمعهد للموسيقى يضم طلابًا من مختلف الخلفيات، ولم تكن تعرف أن تلك الخطوة ستغيّر حياتها. كان معلمها رجلًا في منتصف الثلاثينات، اسمه طارق، عازف بيانو محترف، ذو ملامح هادئة، يرتدي دومًا قميصًا داكنًا ولا يتكلم كثيرًا. في أول يوم، سألها: "لماذا اخترت البيانو؟" قالت: "لأنه آلة يمكن لمسها… وفهمها بالصمت." ابتسم. ومنذ الدرس الأول، بدأ يراها مختلفة. لم تكن تراه، لكنها كانت تعرف متى ابتسم، ومتى حزن، ومتى صمت لأنه لا يريد أن يكسر سطرًا شعوريًا في جو الغرفة. ومع مرور الأيام، بدأت...

مكتوب على الرمل

صورة
في أقصى جنوب العراق، في بلدة صغيرة تُدعى الفاو، تلامس مياه الخليج أطراف الأرض في همسٍ يشبه كلام العشاق. هناك، حيث تختلط رائحة البحر بنكهة الشاي العدني، ولد حيدر، شاب نحيل، ذو بشرة سمراء وملامح حادة، يعمل صيادًا كأبيه وجده من قبله. كان البحر كل ما يعرفه. يستيقظ قبيل الفجر، يحمّل قاربه بشبكته القديمة، ويرحل صوب الأفق دون أن يعلم إن كان سيعود بشيء سوى التعب. حياة حيدر كانت بسيطة، يملأها العمل والشقاء، وكان قلبه فارغًا من كل شيء… حتى جاءت هي. كارولين، شابة أوروبية في الخامسة والعشرين، جاءت من السويد كمصورة وثائقية ضمن بعثة بحثية لدراسة الحياة الساحلية والبيئية في جنوب العراق. لم تكن تعرف الكثير عن البلاد، لكنها كانت مهووسة بالشرق، بجمال الضوء، وغموض الوجوه، وشغوفة بالتقاط القصص قبل الصور. التقيا لأول مرة في سوق السمك. كانت تحمل كاميرتها وتلتقط صورًا للبائعين حين اصطدم بها حيدر بالخطأ. سقطت الكاميرا، لكنه التقطها بلطف واعتذر بلكنة عربية خشنة، فيها بعض الخجل. قالت له بالإنجليزية: "لا بأس… كل شيء بخير." أجابها بعينين لا تفهمان اللغة لكن تحملان شيئًا من الذكاء: "سمك؟" ضحكت....

قبل أن نلتقي

صورة
كانت الرسالة الإلكترونية الأولى خطأً. لم تكن موجهة لها. على الأغلب كانت لرجل يدعى يوسف، لكنها وصلت إلى لينا، مدرسة الأدب الإنجليزي التي تعيش وحدها في شقة صغيرة على أطراف عمان. فتحت الرسالة بدافع الفضول. كانت من شخص يُدعى "آدم.ك"، يتحدث فيها عن مرفقات عمل ومشروع تقديمي لشركة دولية. كان بإمكان لينا أن تتجاهلها. لكن أسلوب الكتابة راقٍ، فيه لمسة أدبية لا تُشبه الرسائل الجافة المعتادة. فردّت عليه ببساطة: "عذرًا، أظن أن هذه الرسالة وصلت بالخطأ. لكن أعجبتني طريقتك في الكتابة." جاء الرد في اليوم التالي: "شكرًا لتنبيهك، وأعتذر عن الإزعاج. ويبدو أنني لم أضيع الرسالة فقط، بل كشفت عن سري الصغير: أنني أحب أن أكتب رسائل كأنني أكتب رواية." ومنذ تلك اللحظة، بدأت قصة. تبادل الرسائل لم يكن مخططًا. بدأ على استحياء. رسائل صباحية صغيرة، ثم سرد للحياة اليومية، ثم سرد أعمق: عن الطفولة، عن الذكريات، عن الخوف من الوحدة. لم يتحدثا عن الشكل، ولا حتى عن العمل أو الدراسة. فقط الكلام. مجرد الحروف التي تأتي كل مساء لتكسر صمت الغرفة. آدم كان يعيش في بيروت، يعمل في شركة تصميم. كتب لها عن ...

حب في الظل

صورة
في إحدى البنايات القديمة المطلة على نهر دجلة في جانب الرصافة من بغداد، تسكن ليلى، فتاة في أواخر العشرينات، رسامة تعيش في عالم خاص بها. غرفتها في الطابق الثالث تطل على بناية مقابلة، شرفاتها مزدحمة بالملابس المنشورة، ونباتات في أوعية بلاستيكية قديمة. كانت ليلى تحب الجلوس بجانب نافذتها المطلة على الشارع، لا لتراقب المارة، بل لتراقب ظلًا واحدًا تحديدًا، لا تعرف وجهه، لا تعرف صوته، لكنها عرفت حضوره. بدأت الحكاية في مساء شتوي ممطر، حين انقطعت الكهرباء، وجلست ترسم على ضوء الشموع. رأت حركة ظل على ستارة النافذة المقابلة. ظل طويل القامة، يتحرك ببطء، كأنه يرقص، أو ربما يتمرن. أثارها الفضول، رسمت الظل في دفترها، وأطلقت عليه اسمًا عشوائيًا: "هو". في اليوم التالي، تكرر الأمر. في كل مساء، ومع مغيب الشمس، كانت ترى ذلك الظل يظهر خلف الستارة الرمادية، يتحرك بطريقة مدروسة، وأحيانًا يجلس وكأنه يقرأ. أحيانًا يقف دون حراك لعدة دقائق. كانت تلك الدقائق تمنحها الإلهام، كأن الزمن يتوقف ويصبح للانتظار معنى. تحولت تلك اللحظات إلى طقس يومي، تحمل فنجان قهوتها، تجلس خلف الستارة، وتمسك قلم الفحم لترسم. رسمت...

إلى من كنت أظنه سندي...

صورة
  إلى من كنت أظنه سندي... ما لم يكن متوقعًا، قد حصل. قربك لم يكن إلا فصلاً من فصول الفشل، قصة عشقٍ نزفت فيها كثيرًا، حتى بات الرحيل أمرًا لا مفر منه. مضطر أن أبتعد، وأتركك خلفي، فقد استنفدتَ كل ما في قلبي من صبر. أحببتك بصدق، لكن حبك كان خاليًا من الحقيقة. قلبي احترق بما فيه الكفاية، ولا أملك القدرة على احتمال جراح جديدة منك. كل مرة كنت أتنازل، أُسامح، وأصبر، لكنني تعبت... تعبت من كسر الخاطر. لا تنتظر مني شيئًا بعد الآن، فأنا قررت أن أتركك، لتبقى وحدك مع نفسك. في كل كسرة قلب، كنتَ أنت السبب، وأنا الذي صدقت أنك وفيّ. طعنتني في أعمق مواضع القلب، وها أنا اليوم أقرر، لن أبقى بجانبك بعد الآن. من عشرتك، لم أرَ سوى الأذى. الآن فقط، أدركت أنك لم تعتبرني يومًا غاليًا. قلبك خالٍ من الوفاء، لم يصفُ لحظة، ولهذا، اكتفى قلبي، وسأرحل لأعيش بسلام مع نفسي. كنتَ السبب في كل هذا الألم. زرعت في قلبي وجعًا لا يُنسى، وها أنا أضع نقطة النهاية لكل شيء بيننا. انكسر حالي بك، رأيت القهر في عينيك، والآن، كل ما أتمناه... أن تبتعد. لا أريدك بقربي أبدًا بعد اليوم. غلطتي الوحيدة، أنني ظننتك سندًا، لكنك كن...

في عيونها أراك

صورة
في أحد أحياء عمّان الهادئة، عاشت ليان منذ طفولتها في عالم صامت، لا تشعر فيه بالألوان ولا تُبصر الملامح، لكنها كانت تحفظ كل التفاصيل بصوتها، بإحساسها، وبحضورها الذي يسبقها إلى كل مكان. فقدت بصرها منذ أن كانت في السادسة من عمرها إثر حادث سير، لكن الحياة لم تسلبها القدرة على الرؤية؛ كانت ترى العالم بقلبها، وتستشعره كما لو أن الحواس جميعها اتحدت لتعويضها. كانت تبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، تعمل في مكتبة للأطفال المكفوفين، وتعيش مع والدتها المتقاعدة. تحب الموسيقى الكلاسيكية، تقرأ عبر أجهزة بريل، وتكتب خواطرها في دفتر خاص لا يعرفه أحد. كانت حياتها بسيطة، رتيبة، لكنها مريحة إلى حدٍ ما. حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل فيه "يزن" المكتبة. يزن شاب في بداية الثلاثينات، يعمل في مجال الهندسة الصوتية، ويملك موهبة في قراءة القصص. جاء متطوعًا ليشارك في مشروع تسجيل كتب صوتية للمكفوفين. كان صوته دافئًا، عميقًا، يحمل نبرة فيها شيء من الحنان وكثير من الصدق. في اليوم الأول الذي سمعته فيه ليان، تجمّدت، لم يكن صوته عاديًا، بل كأنه يخاطب شيئًا نائمًا داخلها. كانت تسترق السمع إليه من خلف الستار الذي يفص...

نصف وعد

صورة
في زحمة الحياة التي تبتلع الأحلام بصمت، وبين الأزقة القديمة لمدينة الموصل، كانت هناك قصة بدأت ولم تكتمل، حكاية لم يُكتب لها أن تُقال حتى نهايتها. تبدأ القصة بشابين في مقتبل العمر، آدم وسُمى، جمعتهما مقاعد الدراسة، وفرّقتهما ظروف لم تكن يومًا من صنعهما. آدم، شاب هادئ، يكتب الشعر ولا يبوح، يرسم ولا يعلّق لوحاته، يعيش في ظل والدته التي كانت تعمل خياطة في بيت متواضع بحي النبي شيت. أما سُمى، فكانت ابنة معلمة موسيقى، فتاة ذات حضور ناعم، عيونها تشبه غيوم الشتاء، وصوتها حين تضحك يشبه أنغام البيانو. كانت تحب الموسيقى والقراءة وتؤمن أن كل إنسان يولد ونصف قلبه في مكان ما، ينتظر من يكمله. كان لقاؤهما الأول في مكتبة المدرسة، حين مدّت سُمى يدها لكتاب كان يقرأه آدم، وتصادفت أصابعهما. لم يتحدثا كثيرًا في البداية، لكن الصمت بينهما كان يحمل أكثر من الكلام. تطورت علاقتهما ببطء، وتحت ظلال الكتب والقصائد، نما بينهما رابط لم يعرفا له اسمًا، لكنه كان كافيًا ليجعل كل شيء حولهما أقل أهمية. المدرسة كانت عالمهما الخاص، يتشاركان فيه الأسرار، الأحلام، وحتى الخوف. ذات مرة، حين أخبرها آدم أنه يخاف المستقبل، قالت ...