في غرفة الموسيقى

عنوان الرواية: حين هطل المطر
في أحد أحياء بغداد القديمة، حيث الشوارع تتقاطع كالأحلام المهشّمة، والمطر يسقط كما تسقط الذكريات، كان عمر يمشي بخطى ثقيلة تحت مظلته السوداء. صوت خطواته فوق الماء المختلط بالغبار كان يشبه لحنًا حزينًا تعوّد عليه منذ سنوات. مضت ثلاث سنوات على تلك الليلة التي انقلبت فيها حياته رأسًا على عقب، حين فَقَد زينب، الحبيبة التي لم يكن يتصور أن تكون الحياة ممكنة بدونها.
التقى بها في الجامعة، تحديدًا في قسم الأدب العربي، حيث كانت تقرأ القصائد بصوت مفعم بالحياة، وكان ينصت لها كما لو أن الشعر يُخلق من جديد على لسانها. لم يكن عمر يومًا شاعرًا، لكنه كتب أول بيت في حياته بعدما التقى زينب: "في عينيكِ قرأتُ المدن التي لم أزرها، وفي صوتكِ، عدتُ طفلًا لا يعرف غير الدهشة."
كانت زينب تؤمن أن الحب ليس شعورًا فقط، بل مشروع حياة، وأن على المحبين أن يبنوا عالمهم الخاص وسط فوضى العالم. كانا يتقابلان بعد المحاضرات، يتبادلان الكتب والرسائل، يذهبان إلى شارع المتنبي، وإلى مكتبات صغيرة، ويجلسان في مقهى شعبي يطل على النهر، يتحدثان عن أحلامهما في الكتابة، والسفر، والسلام.
لكن في مساء شتائي غادر، وبينما كانا عائدين من أمسية شعرية في المركز الثقافي الفرنسي، انفجر لغم تحت السيارة التي استقلاها. عمر نجا بأعجوبة، أما زينب، فقد اختفت في لحظة… لم يبقَ منها سوى دفتر صغير كان في حقيبتها، كتب عليه: "إن متُّ، لا تبكِ عليّ… بل ابكِ على المطر إن توقف."
تبدّل كل شيء بعدها. بقي عمر على قيد الحياة جسديًا، لكن روحه كانت تائهة. كل مكان في بغداد يذكّره بها. الغيمة التي مرت فوق الجامعة، المقعد الحجري في الحديقة، حتى كشك الشاي عند بوابة الكلية. شعر أنه سجين مدينة تحولت إلى مقبرة ذكريات.
بعد عام من الحادثة، قرر مغادرة العراق. لم يكن هاربًا، بل كان يبحث عن فسحة للتنفس. سافر إلى إسطنبول، المدينة التي قرأ عنها في روايات أورهان باموق، والتي شعر أن فيها شيئًا يشبه بغداد القديمة. استأجر شقة صغيرة في حي "كاديكوي"، قرب البحر، وبدأ يعمل في مكتبة عربية يمتلكها رجل سوري اسمه نهاد. كان نهاد قد فقد زوجته في الحرب أيضًا، فجمعتهما الحكايا المنكسرة.
كان عمر يقضي ساعاته بين الكتب، يقرأ كثيرًا، ويكتب القليل. وكان يحتفظ بمفكرة زينب في جارور خاص، يقرأها كل مساء، كما لو أنه يطمئن على نبض قلبها من بين الحروف.
في أحد أيام الشتاء، دخلت فتاة إلى المكتبة. كانت تبحث عن ديوان لنزار قباني. رفعت عينيها وسألته: "هل تحب نزار؟"
كان صوتها يحمل شيئًا مألوفًا، ورغم أن ملامحها لم تكن مطابقة لزينب، إلا أن هناك شيئًا غريبًا في الشبه: نظرة العين، طريقة الابتسام، وحتى طريقة الوقوف.
أجابها وهو يحاول أن يخفي اضطرابه: "أحبه… لكنني توقفت عن قراءته منذ زمن."
قالت: "إذن أنت مجروح."
عرف منها لاحقًا أن اسمها ليلى، وأنها طالبة فنون في جامعة قريبة. كانت تأتي كل أسبوع إلى المكتبة، وتجلس لساعات تقرأ في ركنها الخاص. شيئًا فشيئًا، بدأت العلاقة بينهما تنمو، لا كحب سريع، بل كإعادة بناء بطيئة لشيء هش. كانت تترك له رسائل صغيرة بين صفحات الكتب، وكان يرد برسائل تحمل نثرًا يشبه الشعر. لم يسألها عن ماضيها، ولم تسأله عن زينب، لكنهما كانا يعرفان أن وراء الصمت قصصًا لا تُروى بسهولة.
ذات مساء، دعاها إلى المقهى المقابل للمكتبة. جلسا على الطاولة القريبة من النافذة، والمطر ينقر الزجاج بنعومة. أخبرته عن خوفها من التعلّق، وعن امرأة أحبها والدها ولم يتزوجها لأن الحرب فرّقتهما. قالت: "أحيانًا، أشعر أن الحب في زمننا مثل شمعة… ما إن تشتعل حتى يخاف الناس من نارها."
في تلك اللحظة، نظر إليها عمر طويلًا، وفهم أن قلبه لم يخن زينب، بل فقط وجد طريقًا آخر للنجاة.
لكن القدر كان يختبره مجددًا. خالة ليلى مرضت فجأة، واضطرت للعودة إلى بغداد. لم تستطع ليلى وعده بشيء، لكنها تركت له مظلتها، وقالت: "حين يهطل المطر… تذكرني."
رحلت، وبقي عمر ينتظر. كان المطر يتساقط طوال الشتاء، لكنه لم يكن يعرف متى تعود. كتب لها رسائل لم يرسلها، وضعها في صندوق خشبي، ووضع المظلة قرب النافذة.
مرت سنة. وفي أحد الأيام، دخلت المكتبة طفلة صغيرة، تحمل مظروفًا.
"أنت عمر؟"
"نعم."
أعطته الرسالة وقالت: "خالتي ليلى قالت لك: حين يهطل المطر… اقرأ هذه."
فتح الرسالة: "عزيزي عمر، عدت. وسأزورك حين يهطل المطر. – ليلى"
خرج مسرعًا، وكانت السماء تمطر. لمحها تقف عند الطرف الآخر من الشارع، تحمل مظلتها القديمة، وتبتسم.
اقترب منها، لم يتكلما كثيرًا، فقط نظرا إلى بعضهما، والمطر ينهمر. لم تكن زينب، لكنه لم يكن بحاجة لزينب أخرى.
لأن الحب لا يُمحى… بل قد يُزهر من جديد، فقط حين يهطل المطر.
تعليقات
إرسال تعليق