في غرفة الموسيقى

في أحد صباحات الشتاء الباردة، حين كانت المدينة مغمورة بالضباب والناس يهرولون تحت مظلاتهم، تلقت سلمى رسالة في صندوق بريدها لم تكن تخصّها. كانت رسالة بخط يدوي أنيق، لا تحمل اسم مرسل، فقط عنوان منزلها مدوّن على الظرف. فتحتها بتردد، ووجدت بداخلها ورقة مطوية بعناية، مكتوب عليها:
"إلى من لا أعرفها بعد… إنني أكتب لأحد أؤمن بوجوده، رغم أنني لا أعلم من هو. أكتب لأخفف عني ثقل الأيام، ربما تصلك هذه الكلمات مصادفة، لكنني أؤمن أن لا شيء يحدث عبثًا…"
قرأت سلمى الرسالة مرات عدة، قلبها كان ينبض بخليط من الدهشة والفضول. لم يكن في الرسالة شيء محدد، فقط تأملات عن الوحدة، الخوف من المجهول، والحاجة إلى الحديث مع شخص لا يحكم ولا يقاطع. كان الكلام صادقًا بطريقة نادرة.
سلمى، فتاة في منتصف العشرينات، تعمل كمدرسة للغة العربية في إحدى المدارس الأهلية. تعيش وحدها بعد أن انتقلت من مدينة والدَيها إلى العاصمة للدراسة والعمل. حياتها كانت هادئة، رتيبة، تمتلئ بالكتب والصمت. كانت تقضي أمسياتها بين قراءة الروايات القديمة، وتدوين الخواطر في دفتر جلدي أهدته لها والدتها قبل سفرها. لم تكن تحب الكلام الكثير، لكنها كانت تملك قلبًا شغوفًا بكل ما هو حقيقي.
لم تعرف كيف وصلت الرسالة إليها، لكنها شعرت بشيء يدفعها للرد. جلست مساءً، وأمسكت ورقة، وكتبت:
"إلى من لا أعرفه… وصلت كلماتك إلى قلبي كما تصل رائحة المطر إلى النافذة في يوم غائم. لا أعرف من أنت، ولا لماذا كتبت، لكنني أردت أن أخبرك أن رسالتك جعلتني أبتسم… في يوم لم أكن أنتظر فيه شيئًا."
وضعت رسالتها في نفس الظرف وأعادته إلى صندوق البريد، مع ورقة صغيرة كتب عليها: "عد الرسالة إلى صاحبها."
بعد أيام، وجدت رسالة جديدة. كانت موقعة باسم مستعار: "سامي". وفيها كتب:
"لم أظن أن أحدًا سيقرأ. كنت أكتب منذ أشهر وأرمي الرسائل للريح، أتركها في صناديق بريد عشوائية كلما شعرت بثقل الكلام. أشكرك… لأنك أول من رد."
ومن هنا، بدأت الحكاية.
تبادل الرسائل بينهما أصبح عادة. لم تكن تسأل عن اسمه الحقيقي، ولم يخبرها أين يسكن. كان يكتب عن أيامه، عن وجعه، عن قصصه الصغيرة، عن والدته المريضة، وعن عزلته رغم الزحام. وكانت تكتب له عن طلابها، عن خوفها من المستقبل، عن وحدتها التي كانت تظنها اختيارية، حتى عرفت أنها كانت نوعًا من الحماية.
كل رسالة كانت تأخذ وقتها. أحيانًا تصل بعد ثلاثة أيام، وأحيانًا بعد أسبوع. لكنها كانت دائمًا مليئة بالصدق. لم يتحدثا عن الشكل أو الصور، بل عن الأرواح التي تختبئ خلف الملامح. ذات مرة، كتب لها عن يوم قضاه في المستشفى وهو يرافق أمه، وكيف أن مشهد العجائز ينتظرون الأدوية بعيون مبللة بالحياة جعله يعيد التفكير بكل شيء.
ومرة، كتبت له عن طالبة صغيرة تُدعى هيا، ترسم قلبًا على كل دفتر وتعطيه لصديقتها كل صباح، رغم أنها لا تجيد القراءة. قالت له: "هيا تُحب أولًا، ثم تتعلم كيف تعبّر… وهكذا يجب أن نكون."
مرت شهور، وكان سامي قد أصبح جزءًا من يوم سلمى. كانت تنتظر رسائله كما ينتظر العاشق صوت الحبيب. أصبحت تشتري أوراقًا مميزة للكتابة، تحفظها في علبة خشبية صغيرة، وتكتب بقلم حبر كانت تخبئه منذ الجامعة. حتى يومها الدراسي أصبح مختلفًا، كانت تستيقظ بطاقة غريبة، كأن بداخلها وعدًا غير منطوق أن هناك من ينتظر كلمتها.
تطورت العلاقة دون أن يتحدثا عن شيء ملموس. لم تكن هناك وعود، ولا صور، فقط رسائل… محض كلمات، لكنها كانت تحمل أكثر مما تحمله الأفعال. وأصبحت سلمى تتخيله، تصنع له وجهًا غامضًا في خيالها، وتفكر به كلما نظرت إلى طلابها أو مشت في الشوارع.
في أحد الأيام، اقترحت عليه أن يختارا كتابًا مشتركًا ويقرآه معًا. اختارا "رجال في الشمس" لغسان كنفاني. بدأت مناقشات أدبية تملأ الرسائل، ثم أصبحت الكتب طقسًا أسبوعيًا بينهما. كانوا يقرؤون الكتب، لكنهم يقرؤون بعضهم من خلالها.
ثم جاء الصمت. لم تصل رسالة. أسبوعان مرا، ثم ثالث، وساد الصمت. شعرت وكأن شيئًا انكسر. كانت تمشي في الشارع وتنظر إلى وجوه الغرباء، تتساءل: من منهم سامي؟ وهل انتهت قصتهما؟
في الأسبوع الرابع، وجدت رسالة جديدة، لكن الخط هذه المرة كان مختلفًا. كانت الرسالة من "مروة"، أخت سامي.
"أهلًا سلمى، أنا آسفة إن كنت أكتب لك دون سابق معرفة، لكنني وجدت رسائلك بين أوراق سامي. أردت فقط أن أخبرك… أنه توفي قبل ثلاثة أسابيع، بعد معركة طويلة مع مرض في القلب. لم يكن يخبر أحدًا، حتى نحن. لكنه كان يبتسم وهو يقرأ رسائلك… ويقول إن هناك في هذا العالم من يفهمه دون أن يراه."
تجمدت سلمى. بكت طويلًا تلك الليلة، لم يكن سامي حبيبها، لم تره، لم تسمع صوته، لكنها كانت تعرف روحه أكثر من أي شخص في حياتها. كل رسالة منه كانت مرآة لنفسها، وكانت تشعر أن كل سطر فيها مكتوب لها وحدها.
في اليوم التالي، ذهبت إلى المكتبة وطلبت دفترًا جديدًا. وبدأت تكتب:
"عزيزي سامي، أعرف أن رسالتي هذه لن تصلك، لكنني سأستمر في الكتابة. سأكتب إليك كما كنا نفعل، وسأضع رسائلي في صندوقي الخاص، لأنه ما زال في داخلي متسع لحديث صادق… بين رسالتين."
مرت سنة، كانت سلمى تكتب كل أسبوع رسالة جديدة، تحفظها في صندوق صغير مزخرف بالورود، تحتفظ به بجانب سريرها. كانت تشعر أن هذه الرسائل تمنحها توازنًا داخليًا، أنها رغم الغياب، لا تزال على تواصل مع جزء من نفسها.
وفي إحدى الأمسيات، كانت سلمى في معرض للكتب حين اقترب منها شاب وسألها: "عذرًا، هل أنتِ سلمى؟"
أومأت بدهشة، فقال: "أنا كريم… ابن خالة سامي. قرأت بعض رسائلك، وعرفت كم كانت علاقتكما نقية. أردت فقط أن أراك، أن أشكرَك، لأنك كنتِ النور الوحيد في أيامه الأخيرة."
جلسا على مقعد خشبي في طرف المعرض، وتحدثا طويلاً. اكتشفت فيه شخصًا يشبه سامي في طريقته بالكلام، في عمق نظرته، في خجله حين يبتسم. أخبرها عن رسائل سامي التي لم يرسلها، عن دفتر صغير كان يكتب فيه لها، يحتفظ به في درج مكتبه.
بعد أسابيع، أرسل لها كريم الدفتر. كانت تقرأ كل صفحة ببطء، بدموع مختلطة بالدهشة. كان سامي يكتب لها، يخطط للقاء، يحلم بمكان بسيط يجمعهما. في إحدى الصفحات كتب: "لو قدّر لي أن ألتقيك، سأقول فقط: شكرًا لأنك منحتني حياةً… بين رسالتين."
لم تكن تلك بداية حب، لكنها كانت بداية جديدة، بين شخصين التقيا بفضل رسائل لم تكن موجهة لأحد… لكنها وصلت.
لأن أحيانًا، أكثر القصص صدقًا، لا تبدأ بوجه… بل برسالة.
تمّت.
تعليقات
إرسال تعليق