في غرفة الموسيقى

في ربيع عام 2022، هبطت الطائرة القادمة من باريس في مطار بغداد الدولي، وسط دهشة موظفي الجوازات، إذ كانت تحمل على متنها فتاة أوروبية شقراء، تحمل جواز سفر فرنسيًا وكاميرا احترافية معلقة حول عنقها. اسمها كان "لورين دوما"، صحفية ومصورة وثائقية جاءت في مهمة لتصوير تقرير عن الحياة الثقافية في العراق بعد سنوات الحرب.
لم يكن في نية لورين أن تبقى أكثر من عشرة أيام. كانت تظن أن بغداد مدينة صاخبة، مليئة بالمخاطر، لكنها أرادت أن ترى بعينيها ما تخبئه القصص، بعيدًا عن عدسات الأخبار. منذ سنوات، وهي تتابع أخبار الشرق الأوسط من خلف شاشات التلفاز، ولكن شيئًا في داخلها كان يقول: "لن أفهم الحقيقة حتى أمشي في شوارعها."
استقبلها موظف في منظمة ثقافية محلية، ودلّها على فندق صغير في منطقة الكرادة. كانت الغرفة بسيطة، لكنها تطل على شارع ضيق تملأه عربات الفاكهة وأصوات الباعة. في أول ليلة، كتبت في مفكرتها: "هذه المدينة غامضة… كأنها تهمس، لكنها لا تصرخ."
بدأت لورين في صباح اليوم التالي رحلتها، تزور المقاهي القديمة، تلتقط صورًا للخطاطين، للمكتبات، للأطفال الذين يلعبون قرب الأزقة. كل زاوية كانت تحمل قصة، وكل وجه التقطته عدستها كان يقول شيئًا عن الحياة. كانت تتنقل بين منطقة الرصافة والكرخ، تسجل مشاهد الأسواق، والبائعين، والعجائز الذين يجلسون أمام بيوتهم بأكواب الشاي.
في أحد الأيام، دخلت إلى مقهى تراثي يقع في شارع المتنبي، جلست على طاولة خشبية وطلبت شايًا عراقيًا. لاحظت وجود شاب في نهاية المقهى، يقرأ كتابًا بهدوء، ويضع نظارات طبية صغيرة. لم يكن يشبه الآخرين، لم يكن ينظر إلى هاتفه أو يتحدث مع أحد.
اقتربت منه، وسألته بلغة إنجليزية مكسورة: "هل تتكلم الإنجليزية؟"
رفع رأسه، وقال بابتسامة خفيفة: "قليلًا، لكن أفهم جيدًا."
قالت له إنها مصورة فرنسية، تبحث عن قصص إنسانية في بغداد. عرض عليها أن يرافقها في جولة داخل المدينة القديمة، وقد كان يعرف أماكن قد لا تجدها في خرائط الإنترنت. اسمه كان علي، خريج كلية الفنون الجميلة، يعمل مترجمًا حرًا ويحب التصوير.
منذ تلك اللحظة، بدأت علاقة من نوع خاص تنمو بينهما. كان يرافقها كل يوم، يشرح لها التاريخ خلف كل بناء قديم، يحكي لها عن الشعراء، عن دجلة، عن الأمل المكسور في قلوب الناس. وكانت هي تستمع، تبتسم، وتوثّق كل لحظة بعدستها. كانا يجلسان في سوق السراي، يستمعان لعازف عود، أو يقفان طويلاً أمام محل خط عربي يناقشان جمالية الحروف.
في اليوم الخامس، زاروا ضفاف نهر دجلة، جلسا على حافة السور، وأخبرها عن أخيه الذي اختفى بعد عام 2006، وعن الرسائل التي كان يكتبها له ولا يرسلها أبدًا. قالت له: "أكتب له مجددًا، وربما هذه المرة، ترسلها إلى نفسك."
وبعد ذلك، قررت لورين أن تسجل قصته ضمن مشروعها الوثائقي. جلست معه في غرفة صغيرة داخل بيت جده القديم في الأعظمية، وسجلت شهادته بالصوت والصورة، لكنها لم تنشرها. احتفظت بها كأثر خاص.
أصبحت اللقاءات أكثر عمقًا. كانت لورين تشعر أن بغداد، رغم ملامح الدمار، تحمل جمالًا لا يُرى إلا حين تنظر إليه من قلبك. كانت تتفاجأ بضحكات الأطفال، بحيوية الباعة، بكرم الناس الذين يعطونها الشاي دون أن يطلبوا مقابلاً. قالت له ذات يوم: "أنتم لا تحبون بالكلام… بل بالأفعال."
وفي الوقت ذاته، كان علي يشعر أنه يكتشف مدينته من جديد من خلال عينيها. بدأ يرسم مجددًا بعد توقف دام سنوات، مستلهمًا من صورها، من نظرتها المختلفة لكل ما هو مألوف.
في إحدى الليالي، أثناء عودتهما من أمسية موسيقية في شارع أبو نواس، هطل المطر فجأة، فركضا تحت مظلة محل صغير، ضحكا كالأطفال، كانت لحظة نادرة من السعادة الخالصة. نظر إليها، ثم قال بهدوء: "هل تعرفين ماذا تعني كلمة 'ورد' بالعربية؟"
قالت: "زهور؟"
قال: "نعم، لكن أيضًا، تعني شيئًا يوميًا يبعث على الطمأنينة… مثل صوت القرآن عند الفجر، أو كوب شاي مع من تحب، أو حتى رسالة صغيرة تنتظرها كل يوم."
قالت له: "أنت ورد من بغداد."
لكن الأيام تمر، والرحلة تقترب من نهايتها. قبل يومين من موعد مغادرتها، جلسا في نفس المقهى الذي جمعهما أول مرة. قالت له: "أشعر أنني لا أريد المغادرة، لكنني لا أعرف إن كان ما بيننا حب… أم لحظة نادرة في زمن خاطئ."
قال لها: "الحب لا يحتاج وقتًا طويلًا ليحدث، لكنه يحتاج شجاعة ليُعاش."
في اليوم التالي، أعطاها ظرفًا صغيرًا، كتب عليه: "لا تفتحيه إلا في الطائرة." في داخله، كانت هناك صورة لهما معًا التقطها سائق التاكسي دون علمها، ومكتوب خلف الصورة:
"لورين… لم أكن أعرف أن شخصًا من عالم مختلف تمامًا، يمكنه أن يعيد ترتيب فوضاي الداخلية. كنت أراكِ بالكاميرا… لكنك دخلت الصورة. لا أعلم إن كنا سنلتقي ثانية، لكنني سأكتب لك دائمًا، حتى لو لم أردّ الرسائل. لأن بعض الرسائل لا تُرسل… بل تُحتفظ كورد من بغداد."
بعد مغادرتها، استمرت لورين في مراسلته، رسائل طويلة بالبريد الإلكتروني، تحكي له عن باريس، عن ضجيجها المختلف، عن وحدتها الجديدة. وكان هو يرد، أحيانًا بكلمات، وأحيانًا بصور لمدينته، لمقهاهم، لمكان المطر، لبائع الكتب الذي أصبح يسأل عنها كل جمعة.
بعد شهور، أرسل لها لوحة رسمها، فيها مشهد من بغداد القديمة، وكتب في زاويتها: "لورين… ما زال المطر هنا، لكنك لستِ."
كانت تقرأ رسائله على مقاعد المترو، في المقاهي الفرنسية، وتبتسم. أدركت أن شيئًا في روحها تغيّر، وأن العودة إلى بغداد ليست مجرد خيار مهني.
بعد عام، قررت أن تعود.
لكن هذه المرة، لم تأتِ كمصورة.
جاءت فقط… لأنها اشتاقت للورد الذي تركته في بغداد.
تمّت.
تعليقات
إرسال تعليق