في غرفة الموسيقى

صورة
كانت تعيش في عالم بلا ألوان، بلا وجوه، بلا ملامح. نور، فتاة كفيفة منذ الطفولة، قضت سنوات عمرها في ظلال الأصوات. لم تكن تبصر، لكنها كانت ترى الناس من نبراتهم، من خفق خطواتهم، من طريقة تنفسهم. ترعرعت في بيت يحب الفن، والدتها كانت تعزف على العود، ووالدها كان شاعرًا بسيطًا يكتب القصائد لنفسه. كبرت نور بين الكتب الصوتية والموسيقى، لكنها وقعت في غرام آلة واحدة فقط: البيانو. أحبت مفاتيحه، بياضه وسواده، طريقته في الانحناء، والهدوء الذي يسبق الانفجار في نغمة واحدة. وحين بلغت السابعة عشرة، قررت أن تتعلمه. التحقت بمعهد للموسيقى يضم طلابًا من مختلف الخلفيات، ولم تكن تعرف أن تلك الخطوة ستغيّر حياتها. كان معلمها رجلًا في منتصف الثلاثينات، اسمه طارق، عازف بيانو محترف، ذو ملامح هادئة، يرتدي دومًا قميصًا داكنًا ولا يتكلم كثيرًا. في أول يوم، سألها: "لماذا اخترت البيانو؟" قالت: "لأنه آلة يمكن لمسها… وفهمها بالصمت." ابتسم. ومنذ الدرس الأول، بدأ يراها مختلفة. لم تكن تراه، لكنها كانت تعرف متى ابتسم، ومتى حزن، ومتى صمت لأنه لا يريد أن يكسر سطرًا شعوريًا في جو الغرفة. ومع مرور الأيام، بدأت...

لولو، وحكاية بشر

أنا لولو. قطّة رمادية اللون، بعينين واسعتين كحبات الزيتون. لا أتكلم مثل البشر، لكنني أفهمهم. أعرف متى يفرحون، ومتى يحزنون، ومتى يكذبون حتى على أنفسهم. وبيتي... آه، بيتي! هو شقة صغيرة في الطابق الثالث من عمارة قديمة، فيها بشر مختلفون.

أنا لا أملك البشر، لكنني أراقبهم. أعيش معهم، وأعرف قصصهم، حتى تلك التي لا يبوحون بها لأحد.

صاحبي اسمه عمر. شاب هادئ، كثير التأمل. أحيانًا يجلس على الكرسي قرب النافذة لساعات، لا يتحرك. ينظر إلى الخارج كأنه يبحث عن شيء ضاع منه. أراه يكتب كثيرًا، في دفاتر صفراء. يُحب القهوة، لكنه لا يُحب الناس كثيرًا.

في الليالي الباردة، يتركني أنام على سريره، وأسمعه يتنهد. لا يبكي، لكنه موجوع. أعرف. أنا قطّة، لكنني أُحس.

المرأة في الشقة المقابلة اسمها سُرى. كل مساء تضع أحمر الشفاه، وتجلس في الشرفة، تنتظر هاتفًا لا يأتي. أراها تمسك صورة لرجل بزي عسكري، وتُقبلها بحزن. مرة رأيتها تبكي، فزحف قلبي نحوها. تمنيت لو أستطيع أن أتمسح بقدمها مثلما أفعل مع عمر، لعلها تبتسم.

في الطابق الأعلى يسكن العم أبو ناصر. رجل مسن، يعاني من الوحدة. يتحدث مع الراديو كأنه صديق قديم. يطعم الطيور، ويقرأ الجريدة كل صباح. يضحك بصوت عالٍ عندما يسمع نكتة، حتى لو لم تكن مضحكة. أظن أنه يضحك لأنه لا يريد أن ينسى كيف يضحك.

وهناك أيضًا الطفلة جنى. تعشقني. كلما رأتني، ركضت خلفي وضحكت. أمها تصرخ عليها دائمًا، لكن ضحكتها تبقى. هي الوحيدة التي تحبني حبًا طفوليًا صادقًا، دون شروط، دون أسئلة.

وفي هذا البيت، الكل يحمل وجعًا ما. عمر يحمل الغربة، سُرى تحمل الفقد، العم أبو ناصر يحمل الذكريات، وجنى تحاول أن تفهم عالمًا أكبر من عقلها.

أنا لولو، أراهم كل يوم. أعرف متى يتأخر عمر، ومتى تغلق سُرى الشرفة دون أن تنتظر، ومتى لا يخرج أبو ناصر لشراء الخبز، ومتى تبكي جنى في سرها. أنا لست فقط قطة، أنا مرآة لهذا البيت.

ذات ليلة، عاد عمر وهو مخمور، وهي أول مرة أراه هكذا. جلس على الأرض، وبكى. نعم، هذه المرة بكى. اقتربت منه، تمسّحت بخده، فضمّني إلى صدره وقال: "ما عندي أحد غيرك، لولو."

بكيت. لا بصوت، ولا دموع، لكن قلبي الصغير اهتز. كنت أعرف، منذ زمن، أنه وحيد.

وبعدها بأيام، مات العم أبو ناصر. جاءت سيارة إسعاف، وخرجوا به في كيس أسود. سُرى صرخت. عمر وقف في الممر كأن الدنيا توقفت. جنى كانت تنظر ولا تفهم.

في تلك الليلة، لم ينم أحد. وفي اليوم التالي، اجتمعوا جميعًا عند باب شقته. جلسوا على الدرج، تحدثوا، ضحكوا، بكوا، وتشاركوا الذكريات. لأول مرة، شعرت أن هذا البيت، رغم كل شيء، فيه حياة.

وبدأت الأمور تتغير. عمر صار يفتح بابه أكثر. سُرى صارت تطبخ وتُرسل الطعام لجيرانه. جنى تزور عمر لتلعب معي. وحتى أمها، التي كانت تصرخ كثيرًا، صارت تبتسم.

أنا لولو. لا أتكلم، لكنني رأيت ما لا يراه البشر. رأيت الوحدة وهي تذوب عندما نقترب، عندما نصغي، عندما نُحب دون شروط.

وهكذا، عشت معهم. لا فقط كقطة... بل كشاهدة على أنهم، رغم كسرهم، ما زالوا قادرين على أن يكونوا بشرًا أجمل مما يظنون.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

"ظلال أركانتا: سر الأومبرا".

الغابة المسكونة