في غرفة الموسيقى

في قلب مدينة تغلي بأصوات السيارات والمارة، جلس حيدر وحده في مقهى شعبي، يحتسي قهوته من دون سكر، متأملًا الفراغ الممتد داخل روحه. كان في الثلاثين من عمره، يحمل على كتفيه ثقل أعوام الغربة، فقد غادر العراق قبل عشر سنوات، بعد أن أكلت الحرب قلب مدينته، وكسرت صوته.
استقر في مدينة أوروبية، لا تشبه شيئًا من بغداد. كل شيء هناك منظم، صامت، وبارد. كل شيء فيها يُقال بلغة لا يعرفها قلبه، حتى بعد أن أتقن نطقها. كان يعمل في مكتبة صغيرة، يرتب الكتب ويلمس أغلفتها وكأنها بشر يعرفهم، يهرب بين سطورها من واقع لا يشبهه.
كان يكتب رسائل إلى نفسه، يخطّها على دفاتر بالية، يخبّئها في درج خشبي بجانب سريره. يكتب عن ملامح أمه، عن صوت المؤذن عند الغروب، عن رائحة خبز التنور، وعن الحنين الذي يسكن جلده.
في إحدى الليالي، بينما كان يسير تحت المطر الخفيف، لمح وجهًا يعرفه في انعكاس نافذة المقهى المقابل. لم يكن شخصًا حقيقيًا، بل صورة من الماضي، من شوارع الكرادة، من أيام الجامعة. كانت تلك الفتاة التي أحبها في صمت، وتركها حين اختار الرحيل.
عاد إلى شقته منهكًا، فتح دفتره وكتب: "الروح لا تنفى عن جسدها، بل تُنفى عن ذاكرتها، عن تفاصيلها الصغيرة، عن صوت المطر في الوطن، عن الوجوه التي كانت لنا مرآة."
في عمله، تعرّف على فتاة اسمها إيلا. كانت سويدية، لكن عيناها فيهما حزن مألوف. كانت تقرأ نجيب محفوظ ومحمود درويش، وتحاول فهم معنى الوطن كما يراه اللاجئون. لم تكن تسأله عن ماضيه، بل عن حزنه. كانت تراه كامرأة ترى شبحًا يمرُّ من بين السطور.
تطورت العلاقة بينهما بهدوء، لم تكن حبًا كما يصوّر في الأفلام، بل كانت تشبه هدنة بين روحين متعبتين. كانت تسمعه، فقط تسمعه، دون أن تحاول إصلاحه.
ذات صباح، تلقى حيدر اتصالًا من بغداد. صديق قديم أخبره أن والدته مريضة جدًا، وأنه إن أراد رؤيتها فعليه أن يعود فورًا.
ارتبك. العودة كانت حلمًا مخيفًا. ماذا لو لم يعد يعرف بغداد؟ ماذا لو لم تعد تعرفه؟ لكن صوت أمه في الهاتف، الواهن والبعيد، جعله يحزم حقائبه بيدين مرتجفتين.
وصل بغداد في ليل خانق. لم تكن كما تركها. كل شيء بدا أصغر، أهدأ، كأن المدينة نفسها هَرِمت. ذهب إلى البيت القديم، رأى أمه، كانت تبتسم رغم الوجع، وقالت له: "ما أجمل أن يأتي الغائب، حتى لو متعبًا."
جلس قربها أيامًا. لم يتحدث كثيرًا، كان فقط يستمع إلى أنفاسها، إلى صوت المروحة، إلى وقع الزمن.
في آخر ليلة قبل وفاتها، همست له: "لا تكن منفيًا وأنت فيك قلب يعود. ارجع. عش. واكتب."
بعد دفنها، لم يعد إلى أوروبا. قرر أن يستأجر شقة صغيرة قرب شارع المتنبي. عاد للعمل في مكتبة، لكن هذه المرة في قلب بغداد. كتب كثيرًا، عن الغربة، عن العودة، عن "منفى الروح".
لم يكن قد شُفي من كل شيء، لكنه كان قد بدأ في التصالح مع ذاكرته. لم يعد يرى نفسه غريبًا عن المدينة، بل ابنها الذي ضاع وعاد.
وفي كل صباح، كان يفتح النوافذ، يشم رائحة الغبار والشاي، ويقول لنفسه: "كل منفى له نهاية... إلا منفى لا تعود فيه إلى ذاتك."
وهكذا، عاش حيدر، ليس كلاجئ، بل ككاتب يحمل بين يديه خارطةً إلى ذاته، يرسم بها ملامح بغداد التي لم تغادره أبدًا.
تعليقات
إرسال تعليق