في غرفة الموسيقى

في زحمة الحياة التي تبتلع الأحلام بصمت، وبين الأزقة القديمة لمدينة الموصل، كانت هناك قصة بدأت ولم تكتمل، حكاية لم يُكتب لها أن تُقال حتى نهايتها. تبدأ القصة بشابين في مقتبل العمر، آدم وسُمى، جمعتهما مقاعد الدراسة، وفرّقتهما ظروف لم تكن يومًا من صنعهما.
آدم، شاب هادئ، يكتب الشعر ولا يبوح، يرسم ولا يعلّق لوحاته، يعيش في ظل والدته التي كانت تعمل خياطة في بيت متواضع بحي النبي شيت. أما سُمى، فكانت ابنة معلمة موسيقى، فتاة ذات حضور ناعم، عيونها تشبه غيوم الشتاء، وصوتها حين تضحك يشبه أنغام البيانو. كانت تحب الموسيقى والقراءة وتؤمن أن كل إنسان يولد ونصف قلبه في مكان ما، ينتظر من يكمله.
كان لقاؤهما الأول في مكتبة المدرسة، حين مدّت سُمى يدها لكتاب كان يقرأه آدم، وتصادفت أصابعهما. لم يتحدثا كثيرًا في البداية، لكن الصمت بينهما كان يحمل أكثر من الكلام. تطورت علاقتهما ببطء، وتحت ظلال الكتب والقصائد، نما بينهما رابط لم يعرفا له اسمًا، لكنه كان كافيًا ليجعل كل شيء حولهما أقل أهمية.
المدرسة كانت عالمهما الخاص، يتشاركان فيه الأسرار، الأحلام، وحتى الخوف. ذات مرة، حين أخبرها آدم أنه يخاف المستقبل، قالت له: "أنا أخاف النهايات فقط. أما البدايات… فدائمًا ما تكون جميلة حتى لو كنا نعلم أنها ستنتهي."
كانت اللقاءات سرية، بسيطة، يلتقيان في المكتبة، أو في ساحات المدرسة بعد انتهاء الدوام. يتبادلان القصائد، ويتشاركان أحلامًا لا تشبه واقعهم. قال لها يومًا: "حين أنهي الجامعة، سأعمل، وسأسافر، وسأعود إليك بخاتم من حجر الموصل." فضحكت وقالت: "سأنتظرك… لكن لا تتأخر، فأنا لا أحب الانتظار الطويل."
لكنه تأخر. اندلعت الأحداث، وساء الوضع الأمني، وأُغلق المعهد الذي تدرسه فيه سُمى. اختفى آدم فجأة دون وداع، أُجبر على السفر إلى تركيا بعد ملاحقة أمنية خاطئة، ومضت أيامه هناك متثاقلة في مدينة غازي عنتاب، يعمل في مقهى صغير، ويحاول أن ينسى أنه ترك قلبه في الموصل.
كانت سُمى تنتظر رسالة، كلمة، أي شيء. لكنها لم تتلق شيئًا. مرت أشهر، ثم سنوات، تخرجت، عملت في روضة أطفال، كتبت له رسالة طويلة لكنها لم ترسلها. كانت تقول فيها:
"آدم… هل تعرف أني ما زلت أزور المكتبة التي جمعتنا؟ وأنني أبحث عنك في وجوه الغرباء؟ كنت أظن أنك ستعود، أنك فقط تحتاج وقتًا. لكنك أخذت وعدي… وتركتني بنصفه."
في تركيا، لم يكن آدم بخير. كان يعمل نهارًا، ويكتب ليلًا، يرسم وجوهًا تتشابه كلها مع سُمى. أرسل مرة رسالة، لكنه تردد ولم يكمل العنوان. كان يظن أنه لا يستحق العودة. لم يكن فقط الهروب من الخطر هو ما أبعده عنها، بل شعور داخلي بالذنب، بالعجز، بأنه لم يكن الشخص الذي تستحقه. كانت صورتها لا تفارق ذهنه، حتى إنه ذات مرة رسم لوحة لفتاة تجلس في مكتبة قديمة وعنونها بـ"الوعد".
بعد خمس سنوات، عاد إلى العراق، ولكن ليس إلى الموصل. استقر في بغداد، يعمل في دار نشر، وبدأ ينشر مقالات أدبية. لم يكن يذكر اسمها، لكنه كتب عنها في نصوصه. كتب:
"إلى تلك التي وعدتها بأن أعود… ولم أعد. إلى التي كانت تنتظر خلف الأبواب القديمة… ولم تجد أحدًا. أنا آسف، لأنني لم أكن قويًا بما يكفي لأواجه الحياة وأنا ممسك بيدك."
في معرض الكتاب ببغداد، كانت سُمى في زيارة مؤقتة، بصحبة صديقتها، تبحث عن كتب للأطفال، لكن عينها وقعت على مقطع صغير من نص مطبوع على غلاف كتيب شعري. كان النص مألوفًا، كأنها سمعته يومًا، أو كُتب لها. اقتربت من منصة التوقيع، نظر إليها، لم يعرفها مباشرة، فقد تغيّرت كثيرًا. لكن حين قالت: "هل لا زلت ترسم ولا تعلق لوحاتك؟" ارتبك، تلعثم، ثم ابتسم وقال: "وأنت… هل ما زلت تضحكين كأنك نغمة؟"
جلسا معًا في مقهى صغير قرب النهر. تحدثا لساعات، عن السنوات التي ضاعت، عن الرسائل التي لم تُكتب، عن الوعود التي لم تُكمل. قالت له: "لم أكرهك، لكنني كرهت الصمت، كرهت أن تأخذ قلبي وترحل." ردّ: "كنت خائفًا… لم أعرف كيف أواجهك وأنا خاسر."
سألها: "هل تأخرت كثيرًا؟"
قالت: "تأخرت… لكنك جئت. وربما هذا يكفي لنبدأ من نصف وعد."
لم يكن من السهل إعادة كل شيء. لم تكن هناك نهاية تشبه البدايات. لكنها وافقت على اللقاء، مرة كل أسبوع، في نفس المقهى. كانا يتحدثان عن الحياة، عن الأحلام المؤجلة، عن كتب الأطفال التي تحبها، وعن المعارض التي لم يشارك فيها بعد. كان يحضر لها وردة بيضاء كل مرة، ويكتب لها في ورقة صغيرة: "اليوم أفضل مما مضى… لأنك هنا."
وفي أحد اللقاءات، أخرج دفتره، وقال: "هذا دفتر لم أكتبه لغيرك. فيه كل ما لم أقله حين غبت، وكل ما أردت قوله حين عدت." قرأ لها نصًا بعنوان "نصف وعد"، قالت له بعد أن انتهى: "لم نكمل الحكاية… لكننا لم ننتهِ."
ومع مرور الأيام، بدأت العلاقة تستقر بهدوء. كانت تكتب له ملاحظات صغيرة وتخفيها بين دفاتره، وكان يرسم ملامحها في هوامش دفاتره. أهدته كتابًا عن الحب في الأدب العربي، وكتب لها على الغلاف الداخلي: "لأنك من جعل للكلمات طعم العودة."
زارا الموصل معًا بعد أشهر من استقرار العلاقة. تجولا في الأزقة التي شهدت بداياتهما، زارا مدرستهما القديمة، والمكتبة، والحديقة التي جلسا فيها أول مرة. كان كل مكان يروي قصة، وكل زاوية تحرك ذاكرة كانت نائمة.
وبين مقهى ومكتبة، وسفر وكتابة، نضجت العلاقة. لم تكن كما بدأت، لكنها أصبحت أعمق، أكثر وعيًا. لم يكونا مراهقين بعد، بل شخصين اختبرا الغياب والخذلان، فعرفا معنى البقاء.
لأن بعض القصص لا تحتاج أكثر من شجاعة البداية… ونصف وعد.
تمّت.
تعليقات
إرسال تعليق