في غرفة الموسيقى

صورة
كانت تعيش في عالم بلا ألوان، بلا وجوه، بلا ملامح. نور، فتاة كفيفة منذ الطفولة، قضت سنوات عمرها في ظلال الأصوات. لم تكن تبصر، لكنها كانت ترى الناس من نبراتهم، من خفق خطواتهم، من طريقة تنفسهم. ترعرعت في بيت يحب الفن، والدتها كانت تعزف على العود، ووالدها كان شاعرًا بسيطًا يكتب القصائد لنفسه. كبرت نور بين الكتب الصوتية والموسيقى، لكنها وقعت في غرام آلة واحدة فقط: البيانو. أحبت مفاتيحه، بياضه وسواده، طريقته في الانحناء، والهدوء الذي يسبق الانفجار في نغمة واحدة. وحين بلغت السابعة عشرة، قررت أن تتعلمه. التحقت بمعهد للموسيقى يضم طلابًا من مختلف الخلفيات، ولم تكن تعرف أن تلك الخطوة ستغيّر حياتها. كان معلمها رجلًا في منتصف الثلاثينات، اسمه طارق، عازف بيانو محترف، ذو ملامح هادئة، يرتدي دومًا قميصًا داكنًا ولا يتكلم كثيرًا. في أول يوم، سألها: "لماذا اخترت البيانو؟" قالت: "لأنه آلة يمكن لمسها… وفهمها بالصمت." ابتسم. ومنذ الدرس الأول، بدأ يراها مختلفة. لم تكن تراه، لكنها كانت تعرف متى ابتسم، ومتى حزن، ومتى صمت لأنه لا يريد أن يكسر سطرًا شعوريًا في جو الغرفة. ومع مرور الأيام، بدأت...

في عيونها أراك

في أحد أحياء عمّان الهادئة، عاشت ليان منذ طفولتها في عالم صامت، لا تشعر فيه بالألوان ولا تُبصر الملامح، لكنها كانت تحفظ كل التفاصيل بصوتها، بإحساسها، وبحضورها الذي يسبقها إلى كل مكان. فقدت بصرها منذ أن كانت في السادسة من عمرها إثر حادث سير، لكن الحياة لم تسلبها القدرة على الرؤية؛ كانت ترى العالم بقلبها، وتستشعره كما لو أن الحواس جميعها اتحدت لتعويضها.


كانت تبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، تعمل في مكتبة للأطفال المكفوفين، وتعيش مع والدتها المتقاعدة. تحب الموسيقى الكلاسيكية، تقرأ عبر أجهزة بريل، وتكتب خواطرها في دفتر خاص لا يعرفه أحد. كانت حياتها بسيطة، رتيبة، لكنها مريحة إلى حدٍ ما. حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل فيه "يزن" المكتبة.


يزن شاب في بداية الثلاثينات، يعمل في مجال الهندسة الصوتية، ويملك موهبة في قراءة القصص. جاء متطوعًا ليشارك في مشروع تسجيل كتب صوتية للمكفوفين. كان صوته دافئًا، عميقًا، يحمل نبرة فيها شيء من الحنان وكثير من الصدق. في اليوم الأول الذي سمعته فيه ليان، تجمّدت، لم يكن صوته عاديًا، بل كأنه يخاطب شيئًا نائمًا داخلها.


كانت تسترق السمع إليه من خلف الستار الذي يفصل قاعة التسجيل عن غرفة القراءة، ولم تجرؤ في البداية على الحديث معه. لكنه لاحظ وجودها. بدأ يسأل عنها: من هي؟ وما اسمها؟ كانت تجيب أحيانًا، وأحيانًا تفر.


شيئًا فشيئًا، بدأت العلاقة بينهما تأخذ شكلًا ناعمًا. يزن كان يحكي، وليان كانت تنصت. في البداية، كانت تخاف من أن تكون مجرد مستمعة، ثم أصبحت تنتظر صوته، تتعمد المرور وقت تسجيله، تسأله أسئلة بسيطة، ثم يطول الحديث.


لم يكن يزن يعلم بأنها كفيفة. لم تخبره، ولم تسأله كيف يبدو، فقط كانت تنسج ملامحه من صوته، من نبرة ضحكته، من الطريقة التي ينطق بها حرف الراء. كانت تقول لنفسها: "هو لا يحتاج أن أراه… أنا أراه بطريقتي."


ذات يوم، دعاها إلى مقهى ثقافي لحضور أمسية شعرية. قالت له بصوت خفيض: "أنا لا أخرج كثيرًا ليلاً." لم يقل شيئًا، فقط قال: "أشعر أن صوتك يشبه الشعر… وأردت أن أسمعه هناك."


ذهبت. جلست معه. لأول مرة تكون وسط جمع كبير وهي تشعر أنها ترى. لم تكن ترى الأضواء، لكنها رأت اهتمامه حين قرّب لها الكرسي، حين قال للنادل بلطف: "بدون سكر، هي تحب القهوة مرّة."


في تلك الليلة، عرفت أنها تحبه. دون أن تراه، دون أن تلمسه، دون أن تعرف شيئًا عن ملامحه. فقط صوته، وأسلوبه، ودفء حضوره.


مرت الأشهر، وتعمقت العلاقة. بدأت تكتب له رسائل في دفترها، لكنها لم تجرؤ على إعطائه إياها. كان يقرأ لها قصائد محمود درويش، ويخبرها عن طفولته، عن خيباته، عن حلمه في تأليف كتاب صوتي خاص للأطفال العرب.


في أحد الأيام، أخبرها الطبيب أن هناك عملية جديدة قد تُعيد لها البصر بنسبة كبيرة. كانت مترددة، خائفة. فكرت كثيرًا، لكنها قررت أن تخوض المغامرة.


لم تخبر يزن. أرادت أن تكون المفاجأة كاملة. سافرت إلى تركيا لإجراء العملية، وبقيت هناك شهرين، في صمت تام. كانت تطمئن والدتها فقط برسائل صوتية قصيرة، لكنها لم تذكر شيئًا عن يزن.


نجحت العملية. استعادت بصرها تدريجيًا. كانت تشاهد وجوهًا لأول مرة، تبكي عند رؤية البحر، وتضحك حين ترى المرآة. لكن شيئًا واحدًا كان يخيفها: هل ستكون صورة يزن كما تخيلته؟ هل سيتغير شعورها إذا رأت وجهه؟


عادت إلى عمان، وتوجهت فورًا إلى المكتبة. دخلت بخجل، كان قلبها يخفق كما لم يفعل من قبل. رأته من بعيد، كان يضحك مع أحد الأطفال. لم يكن كما رسمته تمامًا، كان مختلفًا. لا أجمل، ولا أقل وسامة، فقط… مختلف.


اقتربت، ناداها باسمها، تجمّدت للحظة، ثم ابتسمت وقالت: "أنا أراك الآن يا يزن… لكني كنت أراك من قبل، بطريقة لا يعرفها أحد."


نظر إليها بدهشة: "رأيتي؟ كيف؟"


قالت وهي تقترب: "من صوتك… من قلبك… من الطريقة التي تناديني بها."


كانت المرة الأولى التي يمسك يدها. لم تعد بحاجة للتمسك بالجدران، ولا بالعصا البيضاء. كانت يده كافية. مشيا معًا في الشارع القديم، وكان هو من يرتبك هذه المرة.


قال لها: "هل تغير شيء؟"


قالت: "كثيرًا… لكن مشاعري نحوك لم تتغير."


مرت الأيام، وبدأت ترى الحياة من زاويتين، كما لو أن الماضي والحاضر يلتقيان في قلبها. أهدته دفترًا من كتاباتها، وكان في الصفحة الأخيرة مكتوب: "كنت أراك حين كنت لا أراك… فكيف لا أحبك الآن وأنا أراك؟"


تمّت.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

الغابة المسكونة

"ظلال أركانتا: سر الأومبرا".