في غرفة الموسيقى

في أقصى جنوب العراق، في بلدة صغيرة تُدعى الفاو، تلامس مياه الخليج أطراف الأرض في همسٍ يشبه كلام العشاق. هناك، حيث تختلط رائحة البحر بنكهة الشاي العدني، ولد حيدر، شاب نحيل، ذو بشرة سمراء وملامح حادة، يعمل صيادًا كأبيه وجده من قبله. كان البحر كل ما يعرفه. يستيقظ قبيل الفجر، يحمّل قاربه بشبكته القديمة، ويرحل صوب الأفق دون أن يعلم إن كان سيعود بشيء سوى التعب.
حياة حيدر كانت بسيطة، يملأها العمل والشقاء، وكان قلبه فارغًا من كل شيء… حتى جاءت هي.
كارولين، شابة أوروبية في الخامسة والعشرين، جاءت من السويد كمصورة وثائقية ضمن بعثة بحثية لدراسة الحياة الساحلية والبيئية في جنوب العراق. لم تكن تعرف الكثير عن البلاد، لكنها كانت مهووسة بالشرق، بجمال الضوء، وغموض الوجوه، وشغوفة بالتقاط القصص قبل الصور.
التقيا لأول مرة في سوق السمك. كانت تحمل كاميرتها وتلتقط صورًا للبائعين حين اصطدم بها حيدر بالخطأ. سقطت الكاميرا، لكنه التقطها بلطف واعتذر بلكنة عربية خشنة، فيها بعض الخجل.
قالت له بالإنجليزية: "لا بأس… كل شيء بخير."
أجابها بعينين لا تفهمان اللغة لكن تحملان شيئًا من الذكاء: "سمك؟"
ضحكت. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت تراه يوميًا، أولًا في السوق، ثم في الميناء، ثم بدأت تتحدث مع المترجم المحلي وتسأله عنه. علمت أنه يعيش مع والدته، لم يتعلم سوى الابتدائية، لكنه يعرف البحر أكثر من أي كتاب.
أرادت أن تذهب معه في رحلة صيد. رفض في البداية، لكن إصرارها جعله يلين. في أول صباح رمادي، صعدت على قاربه الخشبي، وكان البحر هادئًا كأن السماء تستمع لهم. وكانت تلك بداية الرحلة… لا للبحث البيئي فقط، بل لشيء أعمق.
في عرض البحر، حيث لا حدود سوى الأفق، بدأ شيء ما يتشكل بين الصمت والكلمات. علّمها كيف يرمي الشبكة، كيف يقرأ حركة الموج، كيف يعرف أن السمك قد مرّ، وأي طير يدل على ماذا. وكانت تلتقط له صورًا وهو يعمل، وهو يبتسم دون وعي، وهو يشرح لها بالعربية البسيطة وكأنها لغة خاصة بينهما.
مرّت الأيام، وتحوّل الانبهار إلى صداقة، ثم إلى شيء آخر لا اسم له. كانت تمضي ساعات في بيته، تتناول العشاء مع والدته التي رحبت بها كأنها ابنتها. وكانت كارولين تقرأ لها من الكتب، تحكي لها عن بلاد الثلج، وتريها الصور. وكانت تضحك حين تترجم أسماء الأكلات العراقية بشكل غريب.
وحين يعود حيدر من البحر، كانت تنتظره عند الشاطئ.
لم يقولوا كلمة حب واحدة. لم يعترف أحد. لكن كل شيء في نظراتهم كان يقول ما لم يُقال. كانوا يتهربون من الحسم، لأن الحسم يعني احتمال النهاية. وكانت علاقتهما شيئًا بين الممكن والمستحيل، بين اللغة والصمت، بين الشرق والغرب، بين البحر وامرأة الكاميرا.
ثم جاء اليوم الذي تغير فيه كل شيء.
كان عليهم أن يغادروا. البعثة انتهت. كارولين ستعود إلى السويد. حاولت أن تشرح لحيدر، لكنه لم يفهم التفاصيل، فقط فهم أنها سترحل. سألها متى تعود، ولم يكن في جعبتها وعد. ثم بكى.
قال لها: "أنا ما أعرف أكتب، بس كتبت اسمج على الرمل. كل يوم أكتبه… ولما يجي الموج، يمحيه… وأرجع أكتبه."
غادرت. تركته على الميناء وهو يلوّح بيد ثقيلة، بينما تنظر إليه من نافذة السيارة، تبكي للمرة الأولى بلا صوت.
مرت ثلاث سنوات.
في أحد الأيام، نُشر كتاب مصوّر بعنوان "The Fisherman's Eyes" – "عيون الصياد". كان يحتوي على مئات الصور من العراق، معظمها لرجل واحد يقف أمام البحر. انتشر الكتاب في أوروبا، وكتبت الصحف عنه. احتلت صورته الغلاف: رجل نحيل، يقف بظهره للكاميرا، ينظر نحو البحر، في صمت عميق.
وفي مقابلة تلفزيونية، سألتها المذيعة: "هل وقعتِ في حب هذا الرجل؟"
ابتسمت كارولين وقالت: "لقد كتب اسمي على الرمل… وأنا كتبت روحه في الضوء."
وفي إحدى الليالي، على الشاطئ نفسه، جلس حيدر أمام البحر، ونظر إلى الأفق… فسمع خطوات تقترب، والتفت، ليجدها واقفة… حافية القدمين، تحمل الكاميرا القديمة، وتبتسم.
قالت له بالعربية المهشمة: "رجعت… أريد أتعلم كيف نرمي الشبكة من جديد."
ضحك. وفتح ذراعيه للبحر… ولها.
لم يكن سهلاً أن تبدأ من جديد، لكن هذه المرة لم تكن زائرة مؤقتة. استأجرت بيتًا صغيرًا في الفاو، وعادت لمشروعها الوثائقي. بدأ الناس يهمسون، بعضهم ينتقد، بعضهم يرحب، لكن البحر لم يعترض.
تزوجا في احتفال بسيط على شاطئ البحر، لا موسيقى، لا فساتين فخمة، فقط هو وهي وأمه، وسماء رمادية تغمرهم. كانت تقول له كل صباح: "كل يوم سأرسم وجهك على صفحة ضوئي." وكان يقول لها: "وأنا كل يوم أكتب اسمك على الرمل… وما دام البحر موجود، ما راح يمحيه."
افتتحت كارولين معرضًا دائمًا في البصرة بعنوان: "الموج لا يمحو الحب"، يحوي صورًا لحياتهم، رحلات الصيد، وجه حيدر حين يضحك، أمه وهي تُعد الخبز، وسرير خشبي صغير… لطفلهما الأول، الذي أطلقا عليه اسم "نور".
ربما لم يفهم كثيرون كيف اجتمع بحرٌ وثلج، عربيٌ وسويدية، لكن الحب لا يُترجم. إنه فقط يُعاش، كما كُتب… على الرمل.
تعليقات
إرسال تعليق