في غرفة الموسيقى
كانت تعيش في عالم بلا ألوان، بلا وجوه، بلا ملامح. نور، فتاة كفيفة منذ الطفولة، قضت سنوات عمرها في ظلال الأصوات. لم تكن تبصر، لكنها كانت ترى الناس من نبراتهم، من خفق خطواتهم، من طريقة تنفسهم. ترعرعت في بيت يحب الفن، والدتها كانت تعزف على العود، ووالدها كان شاعرًا بسيطًا يكتب القصائد لنفسه.
كبرت نور بين الكتب الصوتية والموسيقى، لكنها وقعت في غرام آلة واحدة فقط: البيانو. أحبت مفاتيحه، بياضه وسواده، طريقته في الانحناء، والهدوء الذي يسبق الانفجار في نغمة واحدة. وحين بلغت السابعة عشرة، قررت أن تتعلمه.
التحقت بمعهد للموسيقى يضم طلابًا من مختلف الخلفيات، ولم تكن تعرف أن تلك الخطوة ستغيّر حياتها. كان معلمها رجلًا في منتصف الثلاثينات، اسمه طارق، عازف بيانو محترف، ذو ملامح هادئة، يرتدي دومًا قميصًا داكنًا ولا يتكلم كثيرًا. في أول يوم، سألها: "لماذا اخترت البيانو؟"
قالت: "لأنه آلة يمكن لمسها… وفهمها بالصمت."
ابتسم. ومنذ الدرس الأول، بدأ يراها مختلفة. لم تكن تراه، لكنها كانت تعرف متى ابتسم، ومتى حزن، ومتى صمت لأنه لا يريد أن يكسر سطرًا شعوريًا في جو الغرفة. ومع مرور الأيام، بدأت العلاقة بينهما تتخطى حدود الأستاذ والتلميذة.
كانت نور تعزف بإحساس، لكنه يخرج من قلبها لا من أصابعها. وكان طارق يعيدها كل مرة، يحاول أن يرسم لها بالصوت شكل السلم الموسيقي، طريقة نطق الأصابع، متى تهمس بالمفتاح ومتى تصرخ به. وكان في كل مرة يكتشف كم هي ساحرة دون أن تفتح عينيها.
أخذت دروسها تتطور بسرعة. صارت تعزف مقطوعات كاملة من الذاكرة، تؤديها بإحساس نادر. كان طارق يلاحظ أنها لا تتعلم فحسب، بل تفهم الموسيقى كأنها وُلدت بها. كانت تحس بنبضه حين يقف خلفها، يرشد يدها، وكانت ترتبك حين يلمس معصمها ليصحح وضعيتها. وكل مرة كانت تخبر نفسها أن ما تشعر به ليس أكثر من احترام وامتنان، لكنها كانت تكذب على نفسها.
ذات مساء، في غرفة التدريب، كانت تتدرّب على مقطوعة لشوبان. توقفها فجأة وقال: "أنتِ تعزفين الحنين، لا المقطوعة."
سألته بهدوء: "وهل هذا خطأ؟"
قال: "لا… لكنه يكشفك."
ابتسمت، وقالت: "وماذا ترى في وجهي؟"
قال: "أنا لا أراكِ… لكني أسمعكِ."
من تلك اللحظة، لم تكن العلاقة عادية. كانا يلتقيان كل يوم، لا يتحدثان كثيرًا، لكن صمت بينهما كان ممتلئًا بالاعترافات. كانت تكتب له رسائل بخطها البارز، تخبره بما لا تستطيع قوله، وكان يرد عليها بمقطوعات جديدة، يتركها على البيانو باسمها.
لكن الحب لا يعيش دائمًا في الظلال.
كانت هناك جراحة جديدة، فرصة لاستعادة بصرها. أخبرها الأطباء أنها قد ترى النور أخيرًا. كانت مترددة، خائفة من أن تفقد تميزها، أو أن يرى طارق ما لا تحب أن يُرى. أخبرته بالأمر، وسألته: "إذا رأيتك… هل ستبقى كما أنت في ذهني؟"
قال: "ربما لن أكون كما تتخيلين، لكني أعدك أني لن أهرب."
خضعت للعملية. كان الانتظار طويلاً. وحين فُكّ الضماد، كانت الرؤية ضبابية، لكنها بدأت تتحسن. أول وجه رأته… كان والدها يبكي، ثم والدتها… ثم، في الغرفة الأخيرة، طارق.
كان مختلفًا عن تخيلها. بدا أكبر سنًا، أكثر تعبًا، لكن حين تحدث… عرفت صوته. وقالت له: "صوتك كما هو… وأنت تشبهه."
عادت إلى معهد الموسيقى، لكن شيئًا ما اختلف. كانت رؤيتها الجديدة تحجب شعورها أحيانًا. لم تعد تعتمد على إحساسها كما كانت. وعزفها… فقد بعض سحره.
ذات مساء، وجدته يضع غطاءً على البيانو. قالت له: "هل انتهينا؟"
قال: "لا، بل حان الوقت أن نبدأ من جديد. هذه المرة… بعينيكِ وصوت قلبك."
جلست أمام البيانو، أغلقت عينيها، وبدأت تعزف. كانت ترى، لكنها اختارت أن تعود إلى النور الذي لا يبهر، بل يحتضن. وعزفت.
مرت شهور، واستقرت الرؤية في عينيها. لكن الحب لم يستقر. كانت مشاعرها تتأرجح بين امتنان قديم، وانجذاب جديد، وخوف من أن يكون كل ما شعرت به كان جزءًا من الظلام، لا النور.
في أحد الأيام، اقترح طارق أن يعملا معًا على مشروع موسيقي لذوي الاحتياجات البصرية. كان يريد أن تنقل تجربتها إلى أطفال آخرين، أن تكون هي الصوت لهم. وافقت، لكنها كانت تعلم أن هذا ليس فقط مشروعًا موسيقيًا… بل فرصة أخيرة لفهم حقيقة ما بينهما.
خلال العمل، بدأت تراه أكثر كإنسان، لا كظل متخيّل. رأت حزنه في صمته، وقلقه حين يقترب منها، وكيف يخفي مشاعره تحت وقار الأستاذ. وفي ليلة ختامية، أقيم حفل كبير للمشروع. عزفت نور مقطوعة ألفها طارق، وأهدته إياها قبل الحفل بعنوان: "حين كنت أراك دون عيني."
وقف الجميع مصفقين. لكنها لم تكن تنظر إليهم. كانت تنظر إليه فقط.
اقترب منها وقال: "هل عدنا إلى البداية؟"
قالت: "بل بدأنا أخيرًا… في الضوء، وبصوت القلب."
ثم مدّت يدها إلى البيانو، وأغمضت عينيها… وعزفت.
تعليقات
إرسال تعليق