في غرفة الموسيقى

صورة
كانت تعيش في عالم بلا ألوان، بلا وجوه، بلا ملامح. نور، فتاة كفيفة منذ الطفولة، قضت سنوات عمرها في ظلال الأصوات. لم تكن تبصر، لكنها كانت ترى الناس من نبراتهم، من خفق خطواتهم، من طريقة تنفسهم. ترعرعت في بيت يحب الفن، والدتها كانت تعزف على العود، ووالدها كان شاعرًا بسيطًا يكتب القصائد لنفسه. كبرت نور بين الكتب الصوتية والموسيقى، لكنها وقعت في غرام آلة واحدة فقط: البيانو. أحبت مفاتيحه، بياضه وسواده، طريقته في الانحناء، والهدوء الذي يسبق الانفجار في نغمة واحدة. وحين بلغت السابعة عشرة، قررت أن تتعلمه. التحقت بمعهد للموسيقى يضم طلابًا من مختلف الخلفيات، ولم تكن تعرف أن تلك الخطوة ستغيّر حياتها. كان معلمها رجلًا في منتصف الثلاثينات، اسمه طارق، عازف بيانو محترف، ذو ملامح هادئة، يرتدي دومًا قميصًا داكنًا ولا يتكلم كثيرًا. في أول يوم، سألها: "لماذا اخترت البيانو؟" قالت: "لأنه آلة يمكن لمسها… وفهمها بالصمت." ابتسم. ومنذ الدرس الأول، بدأ يراها مختلفة. لم تكن تراه، لكنها كانت تعرف متى ابتسم، ومتى حزن، ومتى صمت لأنه لا يريد أن يكسر سطرًا شعوريًا في جو الغرفة. ومع مرور الأيام، بدأت...

قبل أن نلتقي

كانت الرسالة الإلكترونية الأولى خطأً. لم تكن موجهة لها. على الأغلب كانت لرجل يدعى يوسف، لكنها وصلت إلى لينا، مدرسة الأدب الإنجليزي التي تعيش وحدها في شقة صغيرة على أطراف عمان. فتحت الرسالة بدافع الفضول. كانت من شخص يُدعى "آدم.ك"، يتحدث فيها عن مرفقات عمل ومشروع تقديمي لشركة دولية.


كان بإمكان لينا أن تتجاهلها. لكن أسلوب الكتابة راقٍ، فيه لمسة أدبية لا تُشبه الرسائل الجافة المعتادة. فردّت عليه ببساطة: "عذرًا، أظن أن هذه الرسالة وصلت بالخطأ. لكن أعجبتني طريقتك في الكتابة."


جاء الرد في اليوم التالي: "شكرًا لتنبيهك، وأعتذر عن الإزعاج. ويبدو أنني لم أضيع الرسالة فقط، بل كشفت عن سري الصغير: أنني أحب أن أكتب رسائل كأنني أكتب رواية."


ومنذ تلك اللحظة، بدأت قصة.


تبادل الرسائل لم يكن مخططًا. بدأ على استحياء. رسائل صباحية صغيرة، ثم سرد للحياة اليومية، ثم سرد أعمق: عن الطفولة، عن الذكريات، عن الخوف من الوحدة. لم يتحدثا عن الشكل، ولا حتى عن العمل أو الدراسة. فقط الكلام. مجرد الحروف التي تأتي كل مساء لتكسر صمت الغرفة.


آدم كان يعيش في بيروت، يعمل في شركة تصميم. كتب لها عن المدينة، عن زحمة السير، عن المقاهي التي يزورها، عن شجرة ياسمين أمام نافذته. ولينا كانت تكتب له عن المكتبة، عن صوت الطلاب، عن قطة تزورها كل صباح وتنام تحت المدفأة.


مرت شهور، دون أن يتبادلا صورًا أو أسماء عائلية أو أرقام هواتف. كانا يُحبّان ذلك الشكل من العلاقة الذي لا يطلب أكثر من الكلمات. كأن كل شيء آخر في العالم يبهت عندما تبدأ الكتابة.


كانت لينا في كل رسالة تكتشف شيئًا جديدًا في نفسها. كانت تضحك على نكات آدم الجافة، تبكي حين يكتب لها عن والده الذي فقده صغيرًا، وتنتظر رسائله كمن ينتظر زيارة لا تأتي إلا في الحلم.


وذات مساء، كتب لها: "أنا أحبك… لا كما يحب الناس في الواقع، بل كما يحب الكاتب شخصيته الخيالية التي خلقها بنفسه، ولا يستطيع قتلها حتى في النهاية."


ارتبكت. ظلت الرسالة دون رد لأيام. ثم كتبت: "وأنا… لست متأكدة من طبيعة هذا الشعور، لكنني أعلم أنني لم أعد أنا منذ أن عرفتك."


اقترح اللقاء. لأول مرة. قال إنه سيزور عمان في مهمة عمل، وسيكون أمام المكتبة العامة يوم الجمعة عند الثالثة ظهرًا. فقط إن أرادت أن تراه، ستعرفه من كتاب صغير سيحمله في يده: "الشيخ والبحر".


في اليوم المحدد، ذهبت لينا إلى المكان، وقلبها يخفق كما لم يحدث من قبل. جلست على كرسي قرب الباب، تراقب الوجوه. الساعة تمضي، والقلق يكبر.


وفي لحظة ما، مرّ شاب أمامها، يحمل كتابًا صغيرًا. لكن قبل أن تقترب، رن هاتفه، وأسرع في طريقه.


لم تتبعه. لم تنادِه. بقيت جالسة هناك حتى المغيب. ولم ترَ أحدًا بعدها يحمل ذلك الكتاب.


في الليل، لم تصل رسالة. ولا في اليوم الذي يليه. أسبوع، شهر، سنة.


ظنت أنه اختفى.


مرت ثلاث سنوات. أصبحت لينا تدرّس الآن في جامعة جديدة، لا زالت تكتب، لكن ليس بنفس الشغف. ظلت تحتفظ برسائله في مجلد خاص، لا تفتحه إلا نادرًا.


وفي أحد المعارض الأدبية، دعتها صديقتها إلى توقيع رواية لكاتب لبناني اسمه "آدم كريم". كانت تمسك الكتاب بلا اهتمام حين وقعت عيناها على الإهداء: "إلى التي علمتني أن الحب قد يأتي برسالة… ويرحل قبل أن نلتقي."


رفعت رأسها، وكان هو هناك، على بُعد خطوات، يوقع للقراء. نظر إليها. لم يقل شيئًا. فقط ابتسم… كما تبتسم الذكريات حين تمر من جانبنا.


تمّت.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"القلعة المهجورة: رحلة البقاء على قيد الحياة"

"ظلال أركانتا: سر الأومبرا".

الغابة المسكونة