في غرفة الموسيقى

في إحدى البنايات القديمة المطلة على نهر دجلة في جانب الرصافة من بغداد، تسكن ليلى، فتاة في أواخر العشرينات، رسامة تعيش في عالم خاص بها. غرفتها في الطابق الثالث تطل على بناية مقابلة، شرفاتها مزدحمة بالملابس المنشورة، ونباتات في أوعية بلاستيكية قديمة. كانت ليلى تحب الجلوس بجانب نافذتها المطلة على الشارع، لا لتراقب المارة، بل لتراقب ظلًا واحدًا تحديدًا، لا تعرف وجهه، لا تعرف صوته، لكنها عرفت حضوره.
بدأت الحكاية في مساء شتوي ممطر، حين انقطعت الكهرباء، وجلست ترسم على ضوء الشموع. رأت حركة ظل على ستارة النافذة المقابلة. ظل طويل القامة، يتحرك ببطء، كأنه يرقص، أو ربما يتمرن. أثارها الفضول، رسمت الظل في دفترها، وأطلقت عليه اسمًا عشوائيًا: "هو".
في اليوم التالي، تكرر الأمر. في كل مساء، ومع مغيب الشمس، كانت ترى ذلك الظل يظهر خلف الستارة الرمادية، يتحرك بطريقة مدروسة، وأحيانًا يجلس وكأنه يقرأ. أحيانًا يقف دون حراك لعدة دقائق. كانت تلك الدقائق تمنحها الإلهام، كأن الزمن يتوقف ويصبح للانتظار معنى.
تحولت تلك اللحظات إلى طقس يومي، تحمل فنجان قهوتها، تجلس خلف الستارة، وتمسك قلم الفحم لترسم. رسمته في عشرات الوضعيات، دون أن ترى وجهه. كانت تشعر أنها تعرفه، تحفظ خطواته، تعرف موعد ظهوره. وتدريجيًا، أصبحت اللوحات أكثر دقة، وأكثر قربًا للمشاعر التي لم تعرف كيف تسميها.
ذات يوم، قررت أن تترك له رسالة. كتبت على ورقة: "أنا أراك. في كل مساء، أراك. وأرسمك." ثم علّقتها على نافذتها، مقابل النافذة التي يظهر منها ظله. انتظرت.
في المساء التالي، لم يظهر الظل. شعرت بخوف غريب، كأنها أفسدت شيئًا كان يجب أن يظل صامتًا. انتظرت اليوم التالي، واللي بعده، ولا شيء. بدأت تتساءل إن كان ما عاشته مجرد وهم، أو أنها تجاوزت حدها.
وبعد أسبوع، عادت إلى شقتها منهكة بعد يوم طويل من العمل في معرضها الأول. فتحت النافذة بآلية، دون انتظار، لكنها رأت شيئًا جديدًا: على الستارة المقابلة، ظهرت كلمة مكتوبة بالخط الكبير: "أنا أيضًا أراك."
انهار قلبها بين الضلوع. جلست تبكي، لا من الحزن، بل من الإدراك أن هذا الظل كان بدوره يراها.
بدأ بينهما تواصل صامت. كان يكتب لها كلمات على الورق، يرفعها عبر النافذة، وكانت ترد بالريشة واللون. هو لا يعرف صوتها، وهي لا تعرف وجهه. ومع ذلك، أصبح ذلك الاتصال أغزر من كل الحوارات.
أصبح لديهم لغة خاصة. حين يرسم قلبًا على ورقة، ترسم وردة. حين يكتب "صباح الخير"، ترسم شروق الشمس. كانت تحس به في كل شيء: في فنجان القهوة، في أغنية الصباح، في لوحة جديدة تعلقها على الجدار.
ومع مرور الشهور، أصبح الفراغ الذي بين نافذتيهما طريقًا للحب. لم تكن تجرؤ على البحث عنه في الشارع، ولم يحاول هو كسر هذه اللعبة الجميلة. كانت تخشى أن ينهار السحر لو نظرت إلى عينيه مباشرة.
وفي أحد الأيام، جاءها طرد بريدي صغير دون اسم مرسل. فتحت العلبة، ووجدت داخلها دفتر رسم جديد، على صفحته الأولى رسم لفتاة جالسة بجانب نافذة… تشبهها تمامًا.
أدركت أنه هو.
في تلك الليلة، لم تنم. جلست تكتب له رسالة طويلة، تحكي له فيها عن خوفها، عن الوحدة، عن الرسم، عن الطفلة التي كانت تتحدث مع ظلال الجدران. علقتها على النافذة، وذهبت تنام.
لكن في الصباح، كانت النافذة المقابلة مفتوحة. فارغة. بلا ستارة. بلا ظل.
أيام مرت، أسابيع، ولا أثر له. كأن كل شيء كان حلمًا. لكنها احتفظت بالدفتر، وكانت تفتحه كل يوم، ترسم فيه وجهًا متخيلًا له، تكتب له رسائل لن تقرأ.
وفي أحد معارض الفن المعاصر بعد عام، دخلت صالة العرض لتفاجأ بجدار كامل من اللوحات التي رسمها شخص مجهول… كلها لفتاة بجانب نافذة، تشبهها.
وعلى الجدار الأخير، لوحة مكتوب أسفلها: "إلى من أحببتها في الظل… فرسمتني في الضوء."
تمّت.
تعليقات
إرسال تعليق