المشاركات

في غرفة الموسيقى

صورة
كانت تعيش في عالم بلا ألوان، بلا وجوه، بلا ملامح. نور، فتاة كفيفة منذ الطفولة، قضت سنوات عمرها في ظلال الأصوات. لم تكن تبصر، لكنها كانت ترى الناس من نبراتهم، من خفق خطواتهم، من طريقة تنفسهم. ترعرعت في بيت يحب الفن، والدتها كانت تعزف على العود، ووالدها كان شاعرًا بسيطًا يكتب القصائد لنفسه. كبرت نور بين الكتب الصوتية والموسيقى، لكنها وقعت في غرام آلة واحدة فقط: البيانو. أحبت مفاتيحه، بياضه وسواده، طريقته في الانحناء، والهدوء الذي يسبق الانفجار في نغمة واحدة. وحين بلغت السابعة عشرة، قررت أن تتعلمه. التحقت بمعهد للموسيقى يضم طلابًا من مختلف الخلفيات، ولم تكن تعرف أن تلك الخطوة ستغيّر حياتها. كان معلمها رجلًا في منتصف الثلاثينات، اسمه طارق، عازف بيانو محترف، ذو ملامح هادئة، يرتدي دومًا قميصًا داكنًا ولا يتكلم كثيرًا. في أول يوم، سألها: "لماذا اخترت البيانو؟" قالت: "لأنه آلة يمكن لمسها… وفهمها بالصمت." ابتسم. ومنذ الدرس الأول، بدأ يراها مختلفة. لم تكن تراه، لكنها كانت تعرف متى ابتسم، ومتى حزن، ومتى صمت لأنه لا يريد أن يكسر سطرًا شعوريًا في جو الغرفة. ومع مرور الأيام، بدأت...

ورد من بغداد

صورة
في ربيع عام 2022، هبطت الطائرة القادمة من باريس في مطار بغداد الدولي، وسط دهشة موظفي الجوازات، إذ كانت تحمل على متنها فتاة أوروبية شقراء، تحمل جواز سفر فرنسيًا وكاميرا احترافية معلقة حول عنقها. اسمها كان "لورين دوما"، صحفية ومصورة وثائقية جاءت في مهمة لتصوير تقرير عن الحياة الثقافية في العراق بعد سنوات الحرب. لم يكن في نية لورين أن تبقى أكثر من عشرة أيام. كانت تظن أن بغداد مدينة صاخبة، مليئة بالمخاطر، لكنها أرادت أن ترى بعينيها ما تخبئه القصص، بعيدًا عن عدسات الأخبار. منذ سنوات، وهي تتابع أخبار الشرق الأوسط من خلف شاشات التلفاز، ولكن شيئًا في داخلها كان يقول: "لن أفهم الحقيقة حتى أمشي في شوارعها." استقبلها موظف في منظمة ثقافية محلية، ودلّها على فندق صغير في منطقة الكرادة. كانت الغرفة بسيطة، لكنها تطل على شارع ضيق تملأه عربات الفاكهة وأصوات الباعة. في أول ليلة، كتبت في مفكرتها: "هذه المدينة غامضة… كأنها تهمس، لكنها لا تصرخ." بدأت لورين في صباح اليوم التالي رحلتها، تزور المقاهي القديمة، تلتقط صورًا للخطاطين، للمكتبات، للأطفال الذين يلعبون قرب الأزقة. كل ز...

بين رسالتين

صورة
في أحد صباحات الشتاء الباردة، حين كانت المدينة مغمورة بالضباب والناس يهرولون تحت مظلاتهم، تلقت سلمى رسالة في صندوق بريدها لم تكن تخصّها. كانت رسالة بخط يدوي أنيق، لا تحمل اسم مرسل، فقط عنوان منزلها مدوّن على الظرف. فتحتها بتردد، ووجدت بداخلها ورقة مطوية بعناية، مكتوب عليها: "إلى من لا أعرفها بعد… إنني أكتب لأحد أؤمن بوجوده، رغم أنني لا أعلم من هو. أكتب لأخفف عني ثقل الأيام، ربما تصلك هذه الكلمات مصادفة، لكنني أؤمن أن لا شيء يحدث عبثًا…" قرأت سلمى الرسالة مرات عدة، قلبها كان ينبض بخليط من الدهشة والفضول. لم يكن في الرسالة شيء محدد، فقط تأملات عن الوحدة، الخوف من المجهول، والحاجة إلى الحديث مع شخص لا يحكم ولا يقاطع. كان الكلام صادقًا بطريقة نادرة. سلمى، فتاة في منتصف العشرينات، تعمل كمدرسة للغة العربية في إحدى المدارس الأهلية. تعيش وحدها بعد أن انتقلت من مدينة والدَيها إلى العاصمة للدراسة والعمل. حياتها كانت هادئة، رتيبة، تمتلئ بالكتب والصمت. كانت تقضي أمسياتها بين قراءة الروايات القديمة، وتدوين الخواطر في دفتر جلدي أهدته لها والدتها قبل سفرها. لم تكن تحب الكلام الكثير، لكنه...

حين هطل المطر

صورة
عنوان الرواية: حين هطل المطر في أحد أحياء بغداد القديمة، حيث الشوارع تتقاطع كالأحلام المهشّمة، والمطر يسقط كما تسقط الذكريات، كان عمر يمشي بخطى ثقيلة تحت مظلته السوداء. صوت خطواته فوق الماء المختلط بالغبار كان يشبه لحنًا حزينًا تعوّد عليه منذ سنوات. مضت ثلاث سنوات على تلك الليلة التي انقلبت فيها حياته رأسًا على عقب، حين فَقَد زينب، الحبيبة التي لم يكن يتصور أن تكون الحياة ممكنة بدونها. التقى بها في الجامعة، تحديدًا في قسم الأدب العربي، حيث كانت تقرأ القصائد بصوت مفعم بالحياة، وكان ينصت لها كما لو أن الشعر يُخلق من جديد على لسانها. لم يكن عمر يومًا شاعرًا، لكنه كتب أول بيت في حياته بعدما التقى زينب: "في عينيكِ قرأتُ المدن التي لم أزرها، وفي صوتكِ، عدتُ طفلًا لا يعرف غير الدهشة." كانت زينب تؤمن أن الحب ليس شعورًا فقط، بل مشروع حياة، وأن على المحبين أن يبنوا عالمهم الخاص وسط فوضى العالم. كانا يتقابلان بعد المحاضرات، يتبادلان الكتب والرسائل، يذهبان إلى شارع المتنبي، وإلى مكتبات صغيرة، ويجلسان في مقهى شعبي يطل على النهر، يتحدثان عن أحلامهما في الكتابة، والسفر، والسلام. لكن في مساء...

لولو، وحكاية بشر

صورة
أنا لولو. قطّة رمادية اللون، بعينين واسعتين كحبات الزيتون. لا أتكلم مثل البشر، لكنني أفهمهم. أعرف متى يفرحون، ومتى يحزنون، ومتى يكذبون حتى على أنفسهم. وبيتي... آه، بيتي! هو شقة صغيرة في الطابق الثالث من عمارة قديمة، فيها بشر مختلفون. أنا لا أملك البشر، لكنني أراقبهم. أعيش معهم، وأعرف قصصهم، حتى تلك التي لا يبوحون بها لأحد. صاحبي اسمه عمر. شاب هادئ، كثير التأمل. أحيانًا يجلس على الكرسي قرب النافذة لساعات، لا يتحرك. ينظر إلى الخارج كأنه يبحث عن شيء ضاع منه. أراه يكتب كثيرًا، في دفاتر صفراء. يُحب القهوة، لكنه لا يُحب الناس كثيرًا. في الليالي الباردة، يتركني أنام على سريره، وأسمعه يتنهد. لا يبكي، لكنه موجوع. أعرف. أنا قطّة، لكنني أُحس. المرأة في الشقة المقابلة اسمها سُرى. كل مساء تضع أحمر الشفاه، وتجلس في الشرفة، تنتظر هاتفًا لا يأتي. أراها تمسك صورة لرجل بزي عسكري، وتُقبلها بحزن. مرة رأيتها تبكي، فزحف قلبي نحوها. تمنيت لو أستطيع أن أتمسح بقدمها مثلما أفعل مع عمر، لعلها تبتسم. في الطابق الأعلى يسكن العم أبو ناصر. رجل مسن، يعاني من الوحدة. يتحدث مع الراديو كأنه صديق قديم. يطعم الطيور، ...

منفى الروح

صورة
في قلب مدينة تغلي بأصوات السيارات والمارة، جلس حيدر وحده في مقهى شعبي، يحتسي قهوته من دون سكر، متأملًا الفراغ الممتد داخل روحه. كان في الثلاثين من عمره، يحمل على كتفيه ثقل أعوام الغربة، فقد غادر العراق قبل عشر سنوات، بعد أن أكلت الحرب قلب مدينته، وكسرت صوته. استقر في مدينة أوروبية، لا تشبه شيئًا من بغداد. كل شيء هناك منظم، صامت، وبارد. كل شيء فيها يُقال بلغة لا يعرفها قلبه، حتى بعد أن أتقن نطقها. كان يعمل في مكتبة صغيرة، يرتب الكتب ويلمس أغلفتها وكأنها بشر يعرفهم، يهرب بين سطورها من واقع لا يشبهه. كان يكتب رسائل إلى نفسه، يخطّها على دفاتر بالية، يخبّئها في درج خشبي بجانب سريره. يكتب عن ملامح أمه، عن صوت المؤذن عند الغروب، عن رائحة خبز التنور، وعن الحنين الذي يسكن جلده. في إحدى الليالي، بينما كان يسير تحت المطر الخفيف، لمح وجهًا يعرفه في انعكاس نافذة المقهى المقابل. لم يكن شخصًا حقيقيًا، بل صورة من الماضي، من شوارع الكرادة، من أيام الجامعة. كانت تلك الفتاة التي أحبها في صمت، وتركها حين اختار الرحيل. عاد إلى شقته منهكًا، فتح دفتره وكتب: "الروح لا تنفى عن جسدها، بل تُنفى عن ذاكرت...

الوجه الآخر لبغداد

صورة
في شتاء بغداد الثقيل، حين يتلبد الهواء برائحة البارود والمطر، جلس العقيد سامر خلف مكتبه المتآكل في مركز الشرطة، متصفحًا ملفات القضايا المتراكمة. كانت الأيام تمضي بثقل، والأمل يُستنزف من الوجوه، لكنه لم يكن من أولئك الذين يتركون خيط الشك يتلاشى في العدم. القضية التي بين يديه هذه الليلة كانت مختلفة. جثة رجل خمسيني، موظف متقاعد من وزارة الصناعة، عُثر عليها في منزله بحي الكرادة، مقتولًا بطلق ناري واحد في الرأس، بلا أي علامات اقتحام. لكن اللافت في الأمر، أن الرجل ترك خلفه مذكرة بخط يده تقول: "من يعرف الحقيقة... يعرف من قتله". ابتسم سامر بسخرية خفيفة. كانت هذه العبارة كافية لتوقظ فيه ذلك المحقق الذي مات نصفه منذ سنين، منذ أن فقد زوجته في انفجار استهدف سوقًا شعبيًا. لم يعد يرى في هذه المدينة سوى ألغاز متداخلة، وأرواح تائهة في طرقات فقدت أسماءها. بدأ التحقيق من محيط الضحية، جيرانه، زملاؤه السابقون، وحتى البقال الذي يمر به يوميًا. الكل وصفه بالهادئ، المنعزل، لكنه دائمًا ما كان يتحدث عن "العدالة الحقيقية". بعد أسبوع من التحقيقات الباردة، ظهرت أول خيوط الضوء. في حقيبة قديم...

"خنجر الملك: سرٌ تحت أنقاض بغداد"

صورة
 في قلب بغداد، حيث تمتزج الحضارة العريقة مع الحياة العصرية، كانت زهراء تسير في شوارع المدينة القديمة، تحمل في قلبها شغفًا دفينًا بالآثار والتنقيب عن الماضي. طالبة في الصف السادس الإعدادي، كانت تقضي وقتها بين صفحات الكتب التاريخية وبين رحلات البحث في الأماكن المهجورة، مستعينة بصديقتيها المقربتين، نور وزينب، اللتين شاركتاها ذات الشغف. لم تكن زهراء فتاة عادية، بل كانت شغوفة بماضي العراق، تعشق استكشاف الأماكن المهجورة التي تحكي قصصًا طُمرت تحت التراب. كانت تصطحب صديقتيها في رحلات إلى المواقع الأثرية القديمة، تبحث عن أي دليل يربطها بالحضارات السحيقة. كانت شوارع بغداد القديمة تشهد خطواتها المتحمسة، حيث كانت تقضي الساعات في تفحص النقوش على الجدران وتفسير الرموز القديمة. في أحد الأيام، قررت زهراء أن تأخذ صديقتيها إلى منطقة أثرية مهجورة لم يسمع عنها سوى القليل. كانت مجرد بقايا أحجار مغطاة بالرمال والغبار، لكنها شعرت أن هناك شيئًا مدفونًا تحتها. استخدمت أدواتها البدائية في التنقيب، وفجأة اصطدمت يدها بجسم معدني صلب. بدأت تحفر بحذر حتى كشفت عن خنجر أثري مذهل. كان الخنجر مزينًا بنقوش غامضة وأ...